“أحوال” يكشف حقيقة إصابة ضحايا كورونا بعد اتهام ذويهم بتسميمهم
منذ أن تفشى وباء كوفيد-19 حول العالم، والناس منقسمون حول مدى خطورته، وما إذا كان “نزلة برد عادية” أم أخطر بذلك بكثير. وبعضهم ذهب أبعد من ذلك، معتبراً كورونا “كذبة”.
صحيح أنّ الفيروس لا يُرى بالعين المجردة، إلا أن التداعيات التي تصيب المصابين به أكبر من أن يتم إخفاءها، كيف لا وعدد الوفيات بالوباء تخطى المليون إصابة حول العالم؟
وكان قدر أفراد عائلة عبد الجليل الصمد أن يتذوق أفرادها جميعهم كأس كورونا، لتخسرهم عائلتهم الكبيرة، وتخسرهم بلدتهم بخعون الشمالية، وتبقى ابنتهم تصارع البقاء وحيدة في مستشفى ألبير هيكل في طرابلس.
اصطاد كورونا خمسة من أفراد العائلة، وهذا ما وثقته مستشفى طرابلس الحكومي حيث تلقوا العلاج. لكن كيف لمن لا يؤمن بوجود كورونا أن يصدق وجود فيروس –غير مرئي- قادر على صنع فاجعة بهذا الحجم؟
في المقابل، كيف تقوَ عائلة الصمد على مواجهة الصدمة و”كلام الناس” في آن واحد؟ سيّما بعد اتهام أقرباء العائلة المتوفاة بتسميمها؟ وماذا يقول الطبيب الذي أشرف على إحدى تلك الحالات؟ وماذا يقول علم النفس عن حالة التنمر التي تعيشها العائلة اليوم؟
مروان الصمد: اللسان يعجز عن الكلام
يستعين مروان الصمد بالدين لتسكين آلامه التي سببها هول الصدمة التي حلّت بعائلته، هو الذي فقد أباً واماً وإخوة، “إذ كان لا يمر يوم على غيابي إلا و يناديني عمي ليقول، لقد أطلتَ الغيبة”.
“ليس بالأمر الهيّن”، يقول الصمد بحرقة، متسلّحاً بايمانه الديني الذي يخفف من وطأة الصدمة. فالله يمدّ المؤمن بالصبر، وكذلك وجود المواسين حولنا يصبّرنا على البلاء، يستطرد الصمد.
ويستشهد بحديث نبوي لوصف حالته، فصحيح أنه لا مفرّ من الألم و”ما بعرف اصلاً كيف عم يجيني نوم بالليل وكيف قادر اتماسك نفسي واحكي. ”
ويضيف الصمد الذي لم يقو على حبس دموعه عما يختلج قلبه من حزن، “نحن بشر من لحم ودم ولا مفر من الألم. هذه ضربة كبيرة أصابت المنزل والعائلة والمنطقة، فالجميع يعرف بعضه هنا، وكلنا عائلة واحدة”.
وصحيح أن عبد الجليل عميّ، لكن بغياب والدي كان هو أبي، وعيوش كانت أمي. أما أولاد عمي الثلاثة، فكانوا اخواتي وكنا بيتاً واحداً، يقول الصمد مستذكراً الأمسيات التي كان يقضيها معهم، والتي لا يمكن نسيانها ولا تعويضها.
وعن محبته لأقربائه الراحلين، يقول بغصّة، يعجز اللسان عن الكلام، ويعجز القلم عن الكتابة. وما نمر به هو ظرف بالغ الصعوبة.
بعد أشهر قد يصبح لقاح كورونا متوفراً في الأسواق، إلا أن أقرباءه لم ينالوا فرصة النجاة من هذا الفيروس القاتل، يعلّق الصمد في حديثه لـ”أحوال”، معتبراً أن كورونا مرض مثل باقي الأمراض. وهو يؤمن كذلك بالقضاء والقدر، فالموت مكتوب علينا وإن اختلفت أسبابه. لافتاً إلى أنه “أصبت أنا وعائلتي كلها بالفيروس لكننا شفينا والحمد لله”.
وعن استهتار البعض بكورونا في وقت قد يؤدي فيه الفيروس إلى قتل عائلة برمتها، يذكّر الصمد بمقولة “اعقل وتوكل”. فمن يعرف أنه مصاب “يجب أن يحجر نفسه منعاً للتسبب بالضرر للآخرين”.
رأس مال شعبي
في المقابل، يسهب الصمد بوصف المحبة التي يكنها أهل البلدة لأقربائه الراحلين، فبسام كان عضواً في مجلس بلدية بخعون، وفادي كان معاوناً أول في أمن الدولة، وشادي كان مؤهلاً أول في المباحث الجنائية.
وسمعة الراحلين كانت مرموقة، ومن المعروف عنهم خدمة مجتمعهم. أما الوالد عبد الجليل، فنصف عكار تعرفه بسبب محل السمانة الذي يبيع فيه الحبوب والمواد الغذائية في سوق القمح في طرابلس.
وللراحلين رأس مالي شعبي، الجميع كان يعرفهم ويحبهم، ولولا اجراءات التباعد الاجتماعي، لكان حضر مآتمهم حوالي 700 شخص، لكننا “لم نر سوى حوالي 200 شخص وهم بمعظمهم من العائلة، وحتى النائب جهاد الصمد -أحد اقربائنا- لم يأت إلى مراسم العزاء كي لا يشجع الآخرين على الحضور في ظل انتشار كورونا”.
في المقابل، كان مُحبِطاً عدم وجود جميع المحبّين في مراسم الدفن، ولا ينكر الصمد أنه شيئ صعب جداً. ويرى أننا “لم نأخذ حقنا في الحزن لا مع العائلة ولا مع الضيعة ولا مع بعضنا البعض بسبب انتشار الفيروس”. وصحيح أن الاحباب لم يحضروا جميعهم، إلا أن الاتصالات لم تتوقف لحظة.
وحزن الصمد على أحبابه الغائبين، لم ينسه ابنة عمه الراقدة في المستشفى منذ أكثر من شهر جراء إصابتها بكورونا؛ وهي تعاني من تعثر بالتنفس. ويعلّق على حالتها الصحية بالقول “الله أعلم ماذا قد يحصل”.
إضافة إلى ما تعانيه العائلة من مشاعر الفقدان والصدمة، أُضيف إلى الجرح جرح من نوع آخر، بعد أن طالت العائلة إشاعات مفادها أن المتوفين ماتوا “تسمماً”. وهنا يقول الصمد “إنه لأمر معيب”، ويختم حديثه “فليرحمونا من كلامهم، فمصابنا الذي فينا يكفينا”.
مولوي: كورونا أثبته العلم
نسأل طبيب التخدير والإنعاش في مستشفى طرابلس الحكومي، الدكتور عمر مولوي- الذي تابع إحدى الحالات المتوفية من آل الصمد- عما جرى مع أفراد العائلة، ليقول: كلّهم تدهورت حالتهم بالطريقة نفسها سيما بعد استدعاء حالتهم وصلهم بجهاز تنفس اصطناعي.
وعمّا إذا كانت هناك عوامل وراثية وراء هذه الفاجعة، يلفت مولوي إلى إمكانية وجود mutation génétique أو طفرة جينية لدى بعض العائلات، ما قد يؤدي إلى الفتك بمعظم أفرادها لدى إصابتهم بالعدوى، ويعطي مثالاً عن ارتفاع عداد الوفيات بكورونا في أوروبا والولايات المتحدة، وهو عدد أكبر من سواه مقارنة بمناطق أخرى حول العالم، وهو مؤشر على تأثير العوامل الوراثية للأشخاص، وطريقة استجابتهم للفيروس.
وعائلة الصمد ليست الوحيدة في لبنان التي فقدت عدة أفراد منها بكورونا، ويذكّر مولوي بعائلة الشهال التي خسرت أحد مشايخها في طرابلس، وكذلك توفي من العائلة نفسها أشخاص في مصر والكويت.
ووفق الاحصاءات، فإنّ 15% من الأشخاص الذين يصلون لمرحلة الإنعاش لا تفرز أجسامهم مناعة بكمية كافية. فيما 3.5% منهم يفرزون مناعة ضد أجسامهم، أي يحاربونها.
ولدى سؤال مولوي عن اتهام العائلة بـ”تسميم” أفرادها بمعنى رفض البعض تصديق ما هو كورونا قادر على صنعه، يجيب بشكل صارم وقاطع “كورونا قضت على آل الصمد الراحلين، وهناك فحوصات تثبت إصابتهم بالفيروس وكيفية تدهور صحتهم، ولمن لا يصدق أن كورونا يقتل، فليعلم أنه موجود وقد أثبت وجوده العلم!”
مولوي الذي اعتقد للوهلة الاولى أن التهمة موجهة للمستشفى، أضاف، اعتدنا على اتهامنا بأخذ أموال على حساب مرضى كورونا، ورغم رفضه الرد على هذه الاتهامات، قال بغصّة لم يستطع إخفاءها “أقوم بعملي وما يمليه عليّ ضميري وتكفيني ثقة أهل المريض الكاملة”.
ويرى مولوي أنه من أصل 6 ملايين لبناني، هناك 4 ملايين منهم لا يؤمنون بكوورنا و5 ملايين يتهمون المستشفيات والأطباء بالمتاجرة بأرواح مرضى كورونا. منبهاً من أن كورونا ليس مزحة، وكذلك التداعيات القاسية التي يعانيها المرضى، فبعضهم يعاني من الرهاب بمجرد وصل جسده بآلة التنفس، وهي آلة عليظة يصعب تحملها.
كورونا و البرص… في أي عصر يعيشون؟
تقول المعالجة النفسية لوريس مفرّج في حديث لـ”أحوال”، قد تشعر العائلة بأنّه أمر معيب بنظر الآخرين أن يموت منها عدة أفراد بكورونا، واصفة التنمر في هذه الحالات بأسلوب التفكير المتحجر، إذ أنه يذكرنا بسنوات إلى الوراء كان فيها من يعاني البرص، ضحية لنظرة المجتمع.
وبرأيها، كورونا مرض مثل غيره من الأمراض، ومن يجب أن يخجل ويراجع نفسه هو المتنمر لا ذوو الفقيد، وليسأل نفسه المتنمر بأي عصر يعيش.
وتدعو مفرّج المتنمر ليتتبع العلم، فكورونا مثبت علمياً. أما ذوو موتى كورونا، فتدعوهم لعدم الاكتراث بنظرة الغير، فعقدة النقص هي لدى المتنمرين وليس عند عائلة الفقيد.
وصحيح أن اللوعة لا تحرق إلا في مكانها، لكن عوض المواساة نالت عائلة الصمد حصة وافية من التنمر الذي يكشف في الوقت نفسه خطورة نكران البعض لعدو خفي اسمه كورونا.
ولعلّ انتصار فدى الصمد على الفيروس ورجوعها لذويها، سيكون وحده بارقة الأمل التي قد تصبّر بقية العائلة في مصابها.
فتات عياد